الأحد، 18 ديسمبر 2011

الشاعر مسكون بالكلمات


الشاعر مسكنون بالكلمات مثله تماما كالرسام الذي تسكنه طقوس الالوان والروائي بتفاصيل السير والاحداث تلك العلاقة الجارفة التي تربط الشاعر بالمفردة والقافية والوزن (الكاتب لا يعرف كيف يقاوم النداء الموجع للون الابيض واستدراجه إياه للجنون الابداعي كلما وقف أمام مساحة بيضاء ) تلك الصفحة البيضاء التي تتجمهر فيها الاحاسيس لتهب رياحها العاتية كيفما شاءت بنا ولتمارس الهدوء بطبيعة القلب الساكن . عندما يصبح الجنون ابداعا ما بين الجدة والطرافة وعندما يصبح الجنون الحد الفاصل بين المنطق واللا منطق .

أبا أتنفس دام لي بالنفس حق

ياللي قصيدي فيك من حر الانفاس

والله يا لولا عبرة الحبر الازرق

دمع ٍ نثرته من عذابي بقرطاس

الامير بدر بن عبد المحسن

(المهم الكتابة في حد ذاتها وسيلة تفريغ وأداة ترميم داخلي ) و احيانا نرى ان الكتابة توقظ لهيبها من اللا كتابة , فالذي لم نقوله او نكتبه , هو ذروة اللهب لذلك لا نستطيع القول بأننا قلنا كل ما لدينا وليس هناك شيئا سوف يحرك المياه الراكدة التي لم تهب عليها اعاصير المشاعر المتناقضة التي تترنح فيها أطياف ذاكرة و ملامح جرح و حديث مسهب عن وجع الصباح والليل وسيرة ٍ تتجاذبها الذكريات من حين للآخر . هل قمنا حقا بعملية ترميم داخلي ؟ وكم مضى من الوقت في آخر محاولة قمنا بها لترميم داخلي نحاول ان نعيد ترتيب الافكار و تقييم الذات والالتفاتة المفاجاة لشعور ما ؟ وعندما استدرجنا نداء اللون الابيض للصفحات, قمنا بهذا الترميم الداخلي الذي كثيرا ما ساهم في خلق جنوننا نحو الرغبة الملحة الى ابداع ما .

تعبت أسافر في عروقي ومليت

من جلدي اللي لو عصيته غصبني

ياما تجاوزت الجسد واستقليت

عن الألم .. لاشك جرحي غلبني

(أبدأ في قراءة قصيدة . أحاول فك لغز الكلمات المتقاطعة أبحث عنك وسط الرموز تارة ووسط التفاصيل الاكثر أعترافا أحيانا أخرى ) . ان كنت شاعر مثقل بالجرح , شاعر تعاني من الغربة , ان كنت شاعر تشتعل بك زوابع الاحاسيس المتاقضة والمبهمة والواضحة ايضا , فلن تتأخر في قراءة قصيدة لعل كاتبها قد قام بكتابتك دون ان يدري ليعبر عن حالتك . قراءتنا لشاعر آخر , كفيل بأن يطفئ ما اشعلته كلماتنا , وكفيل ان يشعلها مجددا . لماذا نلجأ لقراءة أخرى , لأشخاص لم نتشاطر معهم تجاربهم؟ لماذا نلجأ لقراءة أخرى ونحاول جاهدين في فك رموزها حينما نجهد انفسنا في فك رموز ذواتنا والولوج الى جوانية الاحاسيس المركبة ؟ ألأن الشاعر دائما في حالة تأهب لإقتفاء أثر الكلمات ؟ حين يعاني من الهجر و اليأس والجروح الغير ملتئمة ومن ثم يواصل البحث عنها في قصيدة لشاعر آخر . حين لا تستطيع حكمته ان تواسيه هكذا يلجأ لحكمة أخرى لشاعر آخر أجهده البحث لعل هذا الأخير وجد الأثر الذي يقتفيه .

بعض طيني .. شهاب أثلي.. ودلو ٍ يابس ٍ مثقوب

يخر الرمل في جوف القليب ويظهر السافي

جريد اللي ذبل و إلا هوى .. أو هو موات قلوب

نويت أشد من دار العطش و أعيش فـ أطرافي

(الكاتب انسان يعيش على حافة الحقيقة ولكنه لا يحترفها بالضرورة ذلك اختصاص المؤرخين لا غير انه في الحقيقة يحترف الحلم ) كثيرا ما يقولون الشعراء ان القصيدة هي وليدة الخيال حينما نجعل للخيال أراضي شاسعة تمتد فيها الحقول الخضراء تارة او صحاري قاحلة تارة أخرة في لحظات الفرح والحزن في لحظات النسيان والتذكر وفي لحظات العشق والكراهية , فالخيال ايضا هو رهين الذات احيانا لاننا وحدنا من نرسم ونعبر تلك الأراضي الشاسعة لتفرض سطوتها علينا او نفرض سطوتنا عليها حين نحترف الحلم.

غريب ٍ تزرع عيوني سراب وتحصد الكثبان

وحيد ٍ مثل رسم ٍ مبطي ٍ في صحصح ٍ خالي

(ان الشعراء مثل الرسامين لهم عادة لا تقاوم في تخليد كل مكان سكنوه أو عبروه بحب بعضهم خلد ضيعة مجهوله وآخر مقهى كتب فيه يوما وثالث مدينة عبرها مصادفة واذا به يقع في حبها الى الابد). كثيرة هي الصحاري والاراضي القاحلة التي خلدها الشعراء وبث فيها الشاعر الحياة وان كانت جرداء , كثيرة هي المدن التي خلدها الشعراء وكأنها مدن لا تشبهها مدائن على كوكب الأرض في شوارعها و ممراتها . شانها شان الشخوص الذين خلدوا في الدفاتر . لذلك تعددت أغراض الشعر المختلفة. ان يكون المكان عالقا في اذهاننا , فكيف أطياف الشخوص حينما تمر الذاكرة ؟ هل حقا جميع الشعراء خلدوا الأماكن مثلما خلدوا شخوصا في حياتهم . أرى ان للأمكنة هيبتها , وهيمنتها , وكأنها تسرد السيرة أو السير لأناس. هل تبوح الأمكنة حقا بأسرارنا و ترسم التفاصيل بدقة كما ينبغي ؟ أم ان الكتابة كوسيلة تفريغ , لم يعد يغريها سوى احتواء الأمكنة بكل مافيها لتحرك الرياح في داخلنا شمالا ويمينا .

كل ما كتبت أبها نشت بين الأوراق

سحابة ٍ وابتل في الصدر معلوق

أخيل بين أصابعي نوض براق

وكن القلم ينبت له غصون وعروق

* العبارات التي بين الأقواس من كتاب ذاكرة الجسد للكاتبة أحلام مستغانمي





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق