الجمعة، 16 ديسمبر 2011

تأملات شاردة


شاعرية التأملات الشاردة ل باشلار يحاول الكاتب إيصال القارئ أو الحالم الى حالتين فالحالة الأولى تشبه من يقول ” انا في الحقيقة حالم , حالم كلمات مكتوبة أعتقد إنني اقرأ فتوقفني كلمة . اترك الصفحة فتدخل في هيجانها أجزاء الكلمة فتترك الكلمة معناها كحمل ثقيل يعيق عملية الحلم ” والحالة الثانية حين يقول آخر ” الأردأ هو عندما ابدأ بالكتابة عوضا عن القراءة, تدور أمامي وببطء عملية تشريح الكلمة فتعيش الكلمة جزءا في خطر التأملات الشاردة الداخلية ” . في كتابة القصيدة , قد يمر الشاعر بمراحل مشابهة تماما لما وصفه باشلار فهناك من يقرأ كثيرا وقد تمتد فترات القراءة شهورا وكأن القصيدة تتوالد ببطء أثناء القراءة فالإنسان القارئ لا يستوقفه سوى الكتاب الذي يود فعلا قراءته أو عثر عليه فأستوقفه عنوانا ما فالتواصل بين القارئ والكتاب هو تواصل ممتد كلما وجد فيه ضالته للمعرفة فليس غريبا ان تتوالد القصيدة أثناء القراءة .

ليس في القراءة نفس مرغمة. وعندنا تحدث باشلار عن قراءة نَـفَـسية وقراءة نَـفْـسية

فالقراءة شغف النَـفْـس العذب ولكن قد يلهث النَـفَس تعبا, فليس الجميع لديه نَـفَـسا متيقظا وطويلا للقراءة. وعندما نقول قراءة نَـفَـسية, فأن القارئ يلقي على عاتقه مهمة قراءة كتاب بأكمله أو قراءة جزء منه وعدم الرجوع إليه. تماما مثل قراءة قصيدة ما بإمعان وتأني أو قراءتها على عجلة من أمرنا دون تريث.

وعندما نتأمل في شاعرية قصيدة, فإننا نتأمل وعي الشاعر وعمق تجربته فنمو التجربة وإثراءها لا يرتبط بسن معين وهذا يحتاج أيضا الى نَـفَـسا طويلا للمتابعة للوصول الى كتابة مقنعة في ذات الشاعر نفسه قبل الآخرين تلك الكتابة التي أمعن فيها النظر مطولا باحثا فيها عن انسجام اللفظ الدقيق و جليل المعنى لا تكلف ولا تعسف فيه يتحدر كتحدر الماء المنسجم , مطبوع على سلامة الذوق وتوقد الفكرة وحسن الأساليب وغيرها الكثير ولكن في كل مكان على هذه البسيطة نجد البعض من يترك أبرز سمات القصيدة دون النظر الى ثغراتها أو مكامن الضعف والخلل فيها والبحث عن الشهرة فالهم الوحيد هو كيف ان يصبح مشهورا شأنه شان الآخرين ولو نظر الى الآخرين لوجد التجارب المختلفة منها تلك التي وصلت بعد طول عناء وبعد نفس طويل من القراءة والمتابعة والتواصل مع الشعر والشعراء . هنا يصبح الشعر الحقيقي كالجوهر النفيس وسوف اذكر حكاية التاجر والصنج . زعموا ان تاجرا كان له جوهر نفيس فأستأجر لثقبه رجلا في اليوم على مئة درهم يدفعها إليه وانطلق به الى منزله ليعمل وإذا في ناحية البيت صنج موضوع والصنج آلة من آلات الطرب فقال التاجر للصانع: هل تحسن الضرب بالصنج ؟ فقال : نعم وكان بضربه ماهرا فقال الرجل : دونك الصنج فأسمعنا ضربك به فأخذ الرجل الصنج ولم يزل يسمع التاجر الضرب الصحيح والصوت الرخيم والتاجر يشير بيده ورأسه طربا حتى أمسى فلما حان الغروب قال الرجل للتاجر : مر لي بالأجرة فقال له التاجر : وهل عملت شيئا تستحق به الأجرة ؟ فقال له : عملت ما أمرتني به وانا أجيرك وما طلبت مني عمله عملت ولم يزل به حتى استوفى منه مئة الدرهم وبقي جوهره غير مثقوب.

عندما يصبح الشاعر كالتاجر وفي يديه جوهر نفيس فتلك موهبته الشعرية التي حباه الله بها وعندما تصبح آلة الصنج , كانشغال الشاعر بالشهرة في معناها العام

( شهرة ) أو الانشغال بأمور أخرى لسنين, قد تعيق من تطوير الأدوات الشعرية. كل هذه الافتراضات في هذه الحكاية, جعلتني أتأمل الشعر الحقيقي بواقعه عندما يصبح كالجوهر النفيس لقيمته , نقتنع بان للشعر قيمته الأدبية الفائقة , ولن يتوانى أي أحد في ان يجعل لشعره قيمة أدبية . وفي الواقع , ان تلك القيمة الأدبية من أجل الشعر فقط هي ما تترك القيمة الحقيقية للشاعر وأشعاره في نفوس الناس . ولا عجب ان يقول شاعر ذات يوم “ان الكلمات تحلم بأن نسميها” وكل هذا ببساطة حينما تصبح الكلمات بكينونتها هي حقائق ذات أهمية نقوم بتجميعها كتأملات شاردة .

كتب أحد الشعراء: كلمة تسير في الظل \\ فتنفخ الأثواب

ويتساءل البعض ماهو حقا يا ترى هذا الشئ الذي كان ينفخ ستائر غرفة الشاعر : كائن , ذكرى , أو أسم ؟ . وفي الحقيقة ان الشاعر فتح للقارئ عالم الكلمات . ان غرفة الشاعر مليئة بالكلمات . كلمات تسير في الظل , كلمات أحيانا تخون الأشياء , وأحلام أخرى تلد أيضا الكلمات كلما قمنا بكتابة الشعر . فقد نتوقف عن الكتابة ولكن بكل تأكيد هو ليس نضوب فالشاعر يظل شاعرا بكيانه وفطرته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق